و انتهت غزوة حنين و سأل النبي عن خالد؟ فيقولون "مثخن في جراحه"، فيترك الغنائم و يعود إلى خالد
فينفخ في بطن يديه و يمسح الجروح و يربت عليه قائلاً : "قم يا سيفا من سيوف الله"، فيقول خالد : "فو الله برئت
جروحي فقمت فركبت خيلي و كأن لم يصبني شيء من قبل، و الله لكلمات النبي و مسحه أحلى عندي من ألف
سيف ضربني".
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحبون رسول الله حبا كبيرا لا يوصف فهل ملأ حب النبي
قلبك؟ وانتبه إلى ما تقوله الآية "واعلموا أن فيكم رسول الله"، فينا بماذا؟ فينا بسنته و بالكنز الذي تركه لنا
و هو السيرة النبوية، إنه فينا بخلقه العظيم بحبه و رحمته، و فينا كل خميس حين تعرض عليه أعمالنا فما
كان فيها من خير حمد الله و ما كان فيها من شر استغفر لنا الله، فينا بدعائه لنا قبل أن يموت، فينا أنه قال
قبل أن يقضي نحبه "اشتقت إلى إخواني"، أي نحن فقال له الصحابة "أو لسنا إخوانك"، قال : "أنتم
أصحابي، إخواني هم من سيأتي من بعدي"، انظر وتدبر معنى قوله تعالى : "لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " التوبة: 128
و رجع الجميع إلى المدينة و بدأت وفود العرب تأتي من كل حدب قائلة "نشهد ألا إله إلا الله"، و عم الإسلام كل
الجزيرة العربية لما صبر النبي على الرسالة و أصر عليها من غير غدر و لا التواء، انتصر و نزلت سورة النصر: "إِذَا جَاء
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً "
و يبكي سيدنا أبو بكر الصديق لنزول هذه السورة و يشعر بأنه نعي رسول الله ، فقد اكتملت الرسالة و تمت لتصبح
جاهزة للأجيال القادمة فما عاد للرسول إلا أن يسلم الروح لبارئها
غزوة تبوك
تقع تبوك على بعد ألف كيلومتر من المدينة. و كانت من مخلفات غزوة مؤتة ضد الغساسنة و الرومان التي هزموا
خلالها ، أن بلغ النبي من سعيد بن زيد أنهم يجهزون جيشاً من أربعين ألف فردا ليغزوا المدينة، فبادر الرسول
و خرج إليهم بعد أن أمر بتجهيز الجيش المكون من الصحابة و كل القبائل التي أسلمت معه، و لم تشن حرب في هذه
الغزوة. و كان لغزوة سببين:
أولا : إنها المعركة الفاصلة لكل صحابي في المدينة لاختبار مدى استعداده للتضحية من أجل رسالته؟
و هنا التساؤل لكل من وعد بحمل الرسالة و إصلاح بلده
هل ستجد طريقة لتحقيق نهضة بلدك ؟ هل ستعيش للرسالة و المبدأ و الهدف ؟
لقد كان الهدف من غزوة تبوك الخالية من الأحداث أن نتفرغ من خلالها للفكرة نفسها و هي : الرسالة و إتمام ما
بدأه رسول الأمة لتتمه الأجيال فيما بعد، حتى يصل إلينا فنحمل المشعل. و كانت معركة صعبة جدا و تزامنت مع
شهر غشت، و الحرارة شديدة الارتفاع و بمسافة تبعد عن المدينة بألف كيلومتر، إضافة إلى أن المدينة المنورة منطقة
زراعية و ثمارها لم تكن قد نضجت بعد و هذا يعني أن الصحابة لن يجدوا مؤونة تحميهم من ضراوة الجوع، و كل هذه
الظروف لم تمنع الصحابة من التجهز للحرب ضد الرومان ذوي العدة و العتاد.
و كان اختبارا رهيبا، علما أن الرسول قد اقتربت ساعة رحيله عن الدنيا و يحتاج الأمر لاختبار كاختبار مكة
خلال بداية الدعوة بما فيه من تعذيب و تضحية لأجل الهدف و نصرة الدين.
و قد سميت هذه الغزوة ب" العسرة " تبعا لما ورد في قوله تعالى : "لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ
. رَّحِيمٌ " التوبة: 117
و خرج مع رسول الله ثلاثون ألفاً، عانوا لمدة خمسين يوماً كلها تعب و جوع و عطش لدرجة أن الصحابي يكاد
يموت عطشاً فيذبح بعيره و يأخذ فرثه و يمص ما فيه من ماء، و لا يأكلون إلا ثمرة واحدة في اليوم لندرة الطعام.
كل المشاهير لا يحتكون بالناس حتى لا تكشف عيوبهم فيحافظوا على هيبتهم
بخلاف سيد الخلق و المرسلين، فقد كان الاحتكاك به مدرسة
و علما لا ينفذ ليكتشفوا عظمته و آماله فيتأثروا به و يتبعوا سنته .
و لكن عملية الانطلاق لحرب الروم تحتاج لإمكانيات كبيرة يجهز بها الجيش فيقوم النبي على المنبر و يخاطب
الناس قائلا : "أيها الناس أنفقوا لتجهيز الجيش"، فيقف سيدنا عثمان بن عفان و يقول: "علي بمائة بعير بأحلاسها
و أقتابها (بأكلها و بسلاحها)، فيبتسم له النبي فينزل درجة فيقف ثانية ثم يقول "من ينفق في سبيل الله؟" فيسود
الصمت ليقف عثمان مرة أخرى و يقول "علي بمائة بعير أخرى بأحلاسها و أقتابها"، فيبتسم الرسول له و ينزل درجة
و يعيد السؤال نفسه فيقوم سيدنا عثمان و يقول مثل الذي قال، آنذاك يحرك رسول الله يديه من أعلى إلى أسفل
قائلاً: "ما ضر عثمان ما فعل بعد ذلك". ثم يأتي عبد الرحمان بن عوف و يضع في حجر النبي مائتي أوقية فضية و يأتي
عمر بن الخطاب و يضع بين يدي رسول الله ثلاثة آلاف درهم و يسأله الرسول :"ماذا أبقيت لأهلك؟" فيرد "نصف
مالي"، و قد ظن أنه فاق أبا بكر بسخائه هذا، فيقبل هذا الأخير ليضع بين يدي النبي أربعة آلاف درهم فيسأله النبي "ما
أبقيت لأهلك؟" فيقول "أبقيت لهم الله و رسوله".
ثم يتوافد الفقراء ليضع أحدهم ثمرة و آخر يجلب صاع شعير، فيشرع المنافقون في اللمز، يقولون إن أبا بكر و عمر
يتباهيان بأموالهما و هما غير مخلصين، و ما يعطيه الفقراء لا يغني شيئاً في هذه الغزوة، فينزل قوله تعالى "الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " التوبة: 79 . فيستعد الجيش للخروج و يؤمر على المدينة سيدنا عليا بن أبي طالب، فينشر
المنافقون شائعة مفادها أن "ما منعه أن يخرج معه إلا استثقالاً منه عليه"، و يقصد المنافقون أن الرسول لم يأذن
لعلي بالخروج معه لأنه ثقيل على قلبه، حينها لا يطيق علي البقاء فيشهر سيفه و يلحق بالنبي و يترجاه قائلا
"خذني معك يا رسول الله يقولون إنك خلفتني في المدينة استثقالاً منك لي"، فقال النبي :"يا علي كذبوا و الله، و الله
ما خلفتك إلا على أهلي و أهلك و أن تحفظ المدينة، أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا
نبي بعدي"، فقال "أرضى يا رسول الله" فرجع إلى المدينة.
ولما انطلق النبي و من معه علم الرومان بقدومهم فتراجعوا معلنين ألا حاجة لهم في الحرب، و لم يعلم
الرسول و صحابته بالأمر مما سيضطرهم إلى تحمل كافة الصعاب و المشاق.
فلماذا لم ينزل جبريل عليه السلام لإخبار رسوله الكريم؟
لأن المغزى هو إكمال الغزوة حتى يرافق الصحابة الرسول
خمسين يوماً فيتعلموا منه و يدركوا قيمة الرسالة .
و يستأذن المنافقون النبي في عدم الخروج إلى الغزوة، قال تعالى : "وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ
لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " التوبة: 90 ، و قال أيضا : "فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ
فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كثِيراً جَزَاء بِمَا كانُواْ يَكْسِبُونَ " التوبة
.82-81
و يقول أحدهم و يدعى الجد بن قيس : "يا رسول الله ائذن لي لا استطيع الخروج معك" : و حين سأله عن
السبب قال : "إني لن أصبر إن رأيت نساء بني الأصفر (نساء الروم) و سأفتن بجمالهن و أترك المعركة"، فنزلت الآية
، الكريمة : "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ " التوبة: 49
أي أنه فتن قبل أن يخرج.
ثم تجيء آيات في السياق نفسه :
"أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً
39- وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" التوبة 38
"قُلْ إِن آكانَ آبَاؤُكم وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ
. وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" التوبة: 24
و يصل النبي إلى تبوك دون حرب، فيحاول بحكمته المعهودة أن يدعو القبائل المجاورة للروم للإسلام و يمضي
صلحا معها، فيرسل خالد بن الوليد إلى ملك دومة الجندل و يدعى "أوكيدر" ليأتي به قصد إمضاء معاهدة صلح معه،
فيسأل خالد حائرا:"و كيف آتيه يا رسول الله و هو داخل حصونه؟" قال : "امض بأربعمائة فارس"، فيستفسر قائلا :
"كيف أكتفي بأربعمائة فارس و الحصون هناك رهيبة؟"، ثم أضاف : "كيف أعرفه؟"، قال : "ستجده يصطاد البقر"،
و كأن النبي قد حلل شخصية أوكيدر هذا فاستخباراته تؤكد أن هواية الصيد تجري منه مجرى الدم و قد تدفعه إلى
الصيد حتى في وقت الحرب، فقال خالد: "خرجت و الله لم أجد لي إلا أن أصدق النبي فكمنت أمام الحصن ثلاثة أيام
أعلم أنه لا يمكن أن أدخله"، و بعد ثلاثة أيام يحكي خالد "أرى أوكيدر على باب الحصن واقفاً على شرفته هو و زوجته"،
فإذا بالبقر و قد أقبل من بعيد ليحك جلده بباب الحصن"، فما أن رآه حتى هرع نحوه و قد عجزت زوجته عن منعه رغم
تنبيهاتها . و ما إن فتح باب الحصن حتى انطلق البقر في اتجاه خالد بن الوليد و كأنه مسخر من الله فمر بالقرب منه
فأسره، ثم انطلق به إلى رسول الله ليوقع مع أوكيدر صلحا مفاده ألا يحارب النبي ، فأحب أوكيدر أن يهدي النبي
هدية فمنحه عباءته، فما إن رآها الصحابة حتى انبهروا لجمالها فقد كانت مرصعة بالذهب و مصنوعة من الحرير و الألوان
الزاهية ، فقال : "و الله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه"
لا زال رسول البشرية يذكر سعد بن معاذ وقد مضى زمن طويل على استشهاده رضي الله عنه .
فإن وجدت في نفسك زيغا نحو الدنيا و مفاتنها فتذكر أن نعيم الجنة فيه مال عين رأت
و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر .