و من الأحداث البارزة في مكة أن النبي نادى على عثمان بن طلحة قائلا "يا عثمان إيتني بمفتاح الكعبة"،
و لنتذكر أن عثمان في الماضي و قبل أن يسلم كان يدخل الناس في يوم من الأيام إلى الكعبة فقال له الرسول :
"أريد أن أدخل فأصلي في الكعبة"، قال "لا"، قال "يا عثمان دعني أصلي مع الناس"، قال "لا"، قال : "يا عثمان دعني
أصلي قبل أن يأتي يوم يكون المفتاح معي و لا أعطيك إياه"، فرد عثمان: "إذا جاء ذلك اليوم فباطن الأرض خير لي من
ظاهرها"، أي أفضل لي أن أدفن على أن يكون المفتاح بيديك، فالنبي يطلبه الآن و هو مسلم قائلا : "اعطني
المفتاح"، فقال عثمان :"هو في حوزة أمي"، فتذكر حادثته السابقة مع رسول الله فذهب إلى أمه و قال لها "رسول
الله يريد المفتاح"، فقالت "و الله لا أعطيك"، و أخفته في ثيابها، و كان النبي واقفاً ينتظر أمام باب الكعبة فقال : "يا عمر
اذهب فاتني بالمفتاح" فذهب عمر و طرق الباب فسألت أم عثمان "من؟" فأجاب : "عمر" فأخرجت المفتاح بسرعة
و أعطته لابنها الذي سلمه لعمر ليصل إلى النبي . و حين أمسكه النبي نظر إلى عثمان فمال العباس إلى رسول
الله و قال: "يا رسول الله أعطيني المفتاح ليكون شرفاً لنا"، فقال: "لا يا عباس يوم بر و وفاء"، فماذا يعني بذلك رسول
الله؟ لقد أعطى حلف في أيام الجاهلية لقبيلة بني شيبة التي ينتمي إليها عثمان بن طلحة الحق في الاحتفاظ بالمفتاح،
فاحترم النبي عرفاً وجد قبل الإسلام و لم يغيره لأنه بعث للبناء لا الهدم ، فقال نبي الرحمة : "خذوه بني
شيبة لا يأخذه منكم إلا ظالم إلى يوم القيامة"، وما زال المفتاح مع بني شيبة إلى يومنا هذا، و لا يدخل أحد الكعبة إلا
بإذنهم.
غزوة حنين
و عندما انتهت الأيام التسعة عشر التي قضاها النبي في مكة ودخل شهر شوال للسنة الثامنة للهجرة ، علم
النبي أن قبيلة هوازن تعد جيشاً بمعية قبيلة ثقيف لمهاجمة مكة، فلماذا هذا التحالف و هذا القرار ؟
لأنهما القوة التي كانت تعادل قوة قريش في الجزيرة، و حين شهدت هزيمة قريش طمعت أن تحظى بريادة
الجزيرة و حق السيطرة عليها، فجهزت جيشاً من عشرين ألف محارب، و حينها قرر النبي الخروج إليهما، فقد كانت
حياة رسول الله جياة جهاد متصل و هو البالغ من العمر 61 سنة.
قال الصحابة رضوان الله عليهم : "ما غدر رسول الله قط، ما ظلم رسول الله قط، ما غضب لنفسه
قط، ما كذب رسول الله قط، ما أخلف رسول الله عهدا قط".
وخرج النبي في جيش قوامه اثنا عشر ألف جنديي، عشرة آلاف منهم فتحوا مكة و ألفان من حديثي العهد
بالإسلام، و لما دنا وقت الخروج ذهب إلى صفوان بن أمية فقال له و قد كان حديث عهد بالإسلام و تاجر سلاح "هل
تعيرني 200 أو 300 درع؟" فرد : "أغصباً يا محمد؟، قال "لا بل إعارة مضمونة"، فأعطاه إياها، و حين هم النبي بإرجاع
الدروع إليه بعد غزوة حنين قال له صفوان : "يا رسول الله إني أكثر رغبة في الإسلام، لا حاجة لي بالمال."
يخرج النبي إلى الحرب و تختار هوزان منطقة تسمى حنين تبعد عن مكة بثلاث ليال و تعسكر فيها و تبحث
عن مكان به منحدر شديد لا بد أن ينزل منه المسلمون الآتون من مكة، فتختار هوزان الكمون في الشعاب و الشجر
و تنصب الكمائن عند نهاية المنحدر، و في الجهة المقابلة يبعث النبي بعض الصحابة لاستقصاء الأخبار و معرفة ما
يوجد أسفل المنحدر و هو الحذر و القائد العسكري العظيم، لكن انطيقت الآية الكريمة و اغتر المسلمون بعددهم
و نصرتهم قال تعالى : " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ آَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ
وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ " التوبة: 25 . فتفشت حالة من التراخي في الجيش واطمئنان بقدوم النصر، أما هوزان فقد خبأت فرسانها
ورماتها وجيشها أسفل المنحدر مباشرة بين الشعاب، و قد استشعر النبي ذلك لكن تراخي الجيش و اغتراره بنصر
مكة أفقدهم زمام الأمور رغم تواجد الرسول بينهم .
درس ثابت في التاريخ يذكر بدرس يوم أحد مفاده أنه إذا قصرنا في التخطيط و الاهتمام بوسائل النصر
فالهزيمة محققة و لو كان معنا رسول الله . إنه معنى في منتهى الخطورة، فما بالكم بأمة مقصرة منذ
200 سنة فلا استغراب لانهزامها و سقوطها. فما كان الدعاء في رمضان مجديا ما دامت المعادلة لم تكتمل
بعد ، فلازالت عناصر النصر ناقصة و هي : التخطيط السليم و الصبر و التضحية و الإصرار و الإيمان
بالرسالة…
و يصل المسلمون إلى المنطقة و يقتربون من المنحدر، و في قيادة مقدمة الجيش خالد بن الوليد و معه ألف
فارس، فيحذرهم النبي بقوله "لا تنزلوا دفعة واحدة و لكن فرقة فرقة"، و كأنه شعر بوجود كمائن في الأسفل مع
أن المعلومات التي يتوفر عليها تفيد بعدم وجود أي شيء يذكر، فتنزل الفرقة الأولى ثم الفرقة الثانية فتخرج بغتة هوزان
من الكمائن و يغيرون على المسلمين من كل مكان، يقولون : " حتى أن خالد من كثرة الجراح التي أصيب بها أغشي
عليه "، و أصبحت الضربات تأتي من كل مكان و صار بعض المسلمين ينزل إلى أسفل المنحدر و البعض الآخر يهرب صاعداً
و فئة يدوس بعضها على بعض، فارتبك الجيش ارتباكا شديدا، و أخذ الجميع يجري في كل اتجاه، و النبي لا يعرف كيف
يجمع الناس فاضطر إلى الإعلان عن مكان وجوده، و كانت تلك شجاعة و جرأة منه فنادى بأعلى صوته : "أنا النبي لا
كذب أنا ابن عبد المطلب"، و ذلك ليجتمع حوله الصحابة، فلم يسمعه أحد ، فالكل يجري مرعوبا لدرجة أن الأحصنة لم يعد
يستطيع أحد إيقافها و هي تركض من شدة الهلع و الارتباك، و النبي ينادي بأعلى صوته و يدعو "اللهم أنجزني وعدك
اللهم انصرنا اللهم لا تخزني اليوم". فكان أول الملتحقين برسول الله العباس ذو الصوت القوي، أمسك بخطام ناقة
رسول الله ونادى بأعلى صوته : "يا معشر المسلمين هلموا إلى رسول الله"، و لا أحد يأتي، فقال النبي : "ليس
هكذا يا عباس و لكن ذكرهم بالأيام العظيمة يجتمعون إليك"، قال :"فماذا أقول يا رسول الله"، قال : "قل يا أصحاب بيعة
العقبة، يا أصحاب بيعة الشجرة، قل يا للمهاجرين قل يا للأنصار، قل يا من حفظتم سورة البقرة أين بيعتكم؟"؟
أريدكم أن تتخيلوا اليوم الذي يناديكم نبي الله ويقول : يا من عاهدتم الله وبكيتم وأنتم تقولون
سنعمل كذا وكذا، ماذا فعلتم بعد رمضان ؟"، إن الأمر سيان بين النداء الأول والثاني.
فظل العباس ينادي حتى بدأت الجموع تلتف حول رسول الله و تقول : "لبيك يا رسول الله"، على من كان
ينادي رسول الله ؟ هل كان يريد العشرة ألف من المحاربين ؟ كان هناك مقصودون بالنداء ليس العشرة ألف كلهم لأن
فيهم حديثو عهد بالإسلام، حين نادى المهاجرين و الأنصار قالوا : "لم نعلم ما نفعل فالأحصنة هاربة"، فأخذوا دروعهم
و قفزوا من فوقها باتجاه صوت العباس و أرض المعركة مكتظة بالهرج فتجمع بعض الناس حول رسول الله و كانوا مائة
صحابي، يقولون "لقد بدأ هؤلاء المائة يقتحمون المعركة وكأنهم إعصار" فشرع العشرة آلاف يتجمعون و ازداد العدد حول
النبي .
و اقترب من رسول الله رجل يدعى شيبة بن عثمان بن طلحة و كان حديث عهد بالإسلام فأخذ خنجراً، و قال:
هذه فرصتي، اليوم بطل السحر، ماذا يقصد؟ يعني أن كل ما فات كان سحرا انتهينا منه، فدنا من النبي و هو يقاتل
قتالاً شديداً لدرجة أن سيفه كسر و هو في يده، حتى إن سيدنا علي بن أبي طالب يقول "فلما اشتدت المعركة كنا
نتقي و نأتي خلف رسول الله "، مع أن النبي عمره آنذاك 61 سنة و علي 33 سنة و هو من أشجع الفرسان، يضيف
علي قائلا : "كان رسول الله أقربنا إلى العدو"، فيا لشجاعة رسولنا سيد الخلق و المرسلين .
فجاء شيبة و هو يحمل الخنجر مقتربا من رسول الله فالتفت إليه النبي و قال: "يا شيبة أريد بك الخير و تريد
بنفسك الشر"، فارتبك لهذه الجملة و قال له النبي "استغفر الله يا شيبة"، فيقول هذا الأخير "أنظر إلى وجهه فيتغير
قلبي حباً له فأنظر إلى وجهه فيتغير قلبي حباً له حتى أحببته" .
فقال شيبة "أشهد أنك رسول الله"، فسأله : "تكون معي ؟ "، قال : "نعم" فانقلب من شخص يريد قتل
رسول الله إلى شخص يدافع عنه، كل ذلك في دقيقة وبجملة واحدة من رسول الله ، فلما انتهت المعركة جاء النبي
شيبة و قال له "أرأيت كيف أراد الله بك الخير، و لو كنت فعلت ما فعلت لكنت من أهل النار، احمد الله يا شيبة".
فبدأ الجيش يتجمع و وقعت بشرى عظيمة و هي نزول الملائكة، و التي لم تقاتل إلى جانب المسلمين إلا في
بدر، و تكتمل الآيات "لَقَدْ نَصَرَكمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ
.26- جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ " التوبة : 25
و انتصر جيش المسلمين و هزمت هوزان و غنم المسلمون غنائم كثيرة لم يحصلوا على مثلها من قبل، فقام
رسول الله بتوزيعها، فبدأ بأبي سفيان و أعطاه 100 ناقة، ثم صفوان بن أمية و حكيم بن حزام و كلهم من قريش و من
المؤلفة قلوبهم، و لقد أعطاهم النبي أموالا كبيرة لدرجة أن أبا سفيان وجد مالا كثيرا فقال للنبي "أآخذه يا رسول
الله؟" قال : "خذ"، قال :"و لابني يزيد"، قال : "خذ"، و قال :"و لابني معاوية"، قال : "خذ"، فما استطاع حمل المال فقال:
"هلا أعنتني بأحد يحمله معه"، قال : "أنت أخذته وحدك فاحمله وحدك".
ذلك درس في التربية على قيمة المال وتحمل مسؤولية الاختيار .
و هكذا وزع رسول الله المال كله على المهاجرين دون أن يترك للأنصار شيئا، و الأنصار يرقبونه مستغربين
و يقولون: "أعطى الناس كلهم و لم يترك لنا شيئا رغم أننا أعطيناهم من أموالنا حين أتونا إلى المدينة"، فبدأ الأنصار
يتداولون بينهم الحديث على أن رسول الله قد عاد و حن إلى عشيرته و أهله، فذهب سعد بن عبادة بكل حرية إلى
النبي و هو قائد الجيش و الدولة فخاطبه قائلا : "إن هذا الفريق يقولون إنك وجدت أهلك"، فرد عليه النبي :
"فماذا تقول أنت يا سعد؟"، قال "أقول مثل ما قال قومي"، فانظر إلى مساحة حرية التعبير دون خوف أو تنميق .
و الأمر عند الأنصار لا يتعلق بحب المال و تحصيله و إنما يودون فهم تصرف النبي و لماذا أعطى المهاجرين
و ترك الأنصار مع أن الغنائم كثيرة ؟ فقال رسول الله : " يا سعد اجمع الأنصار في هذا المكان و لا يدخل أحد دونهم إلا
أبا بكر "، فجمع الأنصار و دخل النبي فقال: " يا معشر الأنصار بلغني عنكم أنكم قلتم وجد رسول الله أهله، فقالوا :
"نعم قلنا ذلك"، فقال النبي : "يا معشر الأنصار ألم آتيكم ضلالاً فهداكم الله ؟ ألم آتيكم أعداء فألف الله بين قلوبكم؟ ألم
آتيكم فقراء فأغناكم الله ؟"، فقالوا : "المن لله و الرسول"، فقال رسول الله : "يا معشر الأنصار لو شئتم لرددتم علي"
قالوا : "ما نقول يا رسول الله؟"، قال: "تقولون و أنت أيضا جئتنا فقيرا فأغناك الله و جئتنا مطرودا فآويناك و جئتنا مكذباً
فصدقناك و جئتنا محارباً فواسيناك، جئتنا مطروداً فكنا معك"، فأخفضوا رؤوسهم و قالوا : "المن لله و للرسول"، فقال النبي
:"يا معشر الأنصار أوجدتم في قلوبكم في لعاعة من الدنيا، ألفت بها قلوب قوم أسلموا حديثاً و تركتكم إلى إيمانكم،
أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس إلى بلادهم بالشاة و البعير و الإبل وترجعون أنتم إلى بلدكم برسول الله، و الله
لو سلكت الناس طريقا و سلك الأنصار طريقا لسلكت طريق الأنصار و تركت طريق الناس، اللهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار
و أبناء أبناء الأنصار"، فبكى الناس حتى امتلأت لحاهم بالدموع فقالوا : "رضينا برسول الله قسماً و نصيباً"، فكانوا هم
الفائزين إذ عاد الناس بالإبل والأموال و عادوا هم بما هو أغلى بكثير و هو رسول البشرية أجمعين.
و أنت هل ستختار مرافقة نبي الله في الجنة إذا سرت على خطاه
و حققت نهضة بلدك ؟ أم تختار زيف الدنيا و فتنتها ؟